لفظ الجلالة { الله } اشتقاقه ومعناه
جاء في حاشية الكشاف للزمخشري:« اعلم أن العقلاء ، كما تاهوا في ذات الله وصفاته لاحتجابها بأنوار العظمة وأستار الجبروت ، كذلك تحيَّروا في لفظ ( الله ) ؛ كأنه انعكس إليه من مُسمَّاه أشعة من تلك الأنوار ، قهرت أعين المستبصرين به عن إدراكه ، فاختلفوا : أسرياني هو ، أم عربي ؟ اسم هو ، أم صفة ؟ مشتقٌّ ، وممَّ اشتقاقُه ، وما أصله ، أو غير مشتقٍّ ؟ علمٌ هو ، أو غير علم ؟ » .
وقد اضطربت أقوال العلماء في الإجابة عن هذه الأسئلة ، وكثر في ذلك نزاعهم ، وتباينت فيه آراؤهم ؛ ولذلك وجدنا الزجَّاج يقول :« وأكره أن أذكر جميع ما قاله النحويون في اسم الله . أعني : قولنا : الله ، تنزيهًا لله عز وجل » . وكان الزجاج قد ذكر أن الألف فيه ألف وصل ، ثم حكى في موضع آخر عن سيبويه أنه قال : « سألت الخليل عن هذا الاسم ، فقال : الأصل فيه : إِلاهٌ ، فأدخِلَت الألف واللام بدلاً من الهمزة » . وقال مرة أخرى :« الأصل : لاه ، وأدخلَت الألف واللام لازمة » .
والقول الأول من هذين القولين هو قول جمهور البصريين ، والقول الثاني منهما هو قول جمهور الكوفيين . وعلى الأول يكون وزن اسم الله : العال ؛ لأن أصله : الإله ، حذفت منه الهمزة تخفيفًا ، أو اختصارًا- كما قالوا- ثم أدغمت اللام في اللام . وعلى القول الثاني يكون وزنه : الفَعَل ؛ لأن أصله : لاه ، أدخلت عليه الألف واللام للتعريف .
والمشهور من هذين القولين هو القول الأول ، وقد أجمع القائلون به على أن الألف واللام فيه زائدة لازمة ، وأنه اسم علم عربي . ثم اختلفوا فيه على قولين :
أحدهما : أنه غير مشتقٍّ . والثاني : أنه مشتقٌّ من التأَلُّه ، مصدر : تأَلَّهَ يتأَلَّه ، فهو مُتأَلِّهٌ . أي : تعبَّد يتعبَّد ، فهو مُتعبِّد . أو هو مشتقٌّ من الأَلَه ، مصدر : أَلِهَ يأْلَهُ . أي : تحيَّر ، ودُهِشَ ؛ وذلك أن الأوهام تتحيَّر في معرفة المعبود ، والعقول تُدْهَشُ عند التفكير في عظمته ، فلا يعلم أحدٌ كيف هو ؟!
وذهب فريق ثالث إلى أنه اسم علم مرتجل ، لا اشتقاق له ، وأنه ليس له أصل في لغة العرب ، ولا في غيرها ، وأن الألف واللام فيه من جنس الكلمة . وقد نُقِل هذا القول عن الخليل ، وعنه حكاه البَيْهَقِيُّ ، ثم قال بعد أن عرض الأقوال السابقة :« وأحبُّ هذه الأقاويل إليَّ قول من ذهب إلى أنه اسم علم ، وليس مشتقًّا . والدليل على أن الألف واللام من بُنْيَة هذا الاسم دخول حرف النداء عليه ؛ كقولك : يا ألله ! وحرف النداء لا يجمَع مع الألف واللام » .
واختار هذا القول الشيخ ابن العربي ، وتابعه الشيخ السهيلي- رحمه الله- فقال : « والذي نشير إليه من ذلك ، ونؤثره ما اختاره شيخنا- رضي الله عنه- وهو الإمام الحافظ أبو بكر محمد بن العربي ، قال : الذي أختاره من تلك الأقوال كلها هذا : أن الاسم غير مشتقٍّ من شيء ، وأن الألف واللام من نفس الكلمة ؛ إلا أن الهمزة وصلَت لكثرة الاستعمال ، على أنها فيه جاءت مقطوعة في القسم ، حكى سيبويه : أَفَأَلله لأفعلَنَّ . وفي النداء ؛ نحو قولهم : يا أَلله ! فهذا يقوِّي أنها من نفس الكلمة » .
وأضاف الشيخ السهيلي قائلاً :« ويدلك على أنه غير مشتقٍّ أنه سبق الأشياء التي زعموا أنه مشتقٌّ منها . لا نقول : إن اللفظ قديم ؛ ولكنه متقدِّم على كل لفظ وعبارة ، ويشهد بصحة ذلك قوله تعالى :﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾(مريم: 65) . فهذا نصٌّ في عدم المسمَّى ، وتنبيه على عدم المادة المأخوذ منها الاسم » .
وعلَّق أبو حيان على هذا القول ، فقال :« وزعم بعضهم أن ( ال ) في الله من نفس الكلمة ، ووصلت لكثرة الاستعمال ، وهو اختيار أبي بكر بن العربي والسهيلي ، وهو خطأ ؛ لأن وزنه- إذ ذاك- يكون : فعَّالاً ، وامتناع تنوينه لا موجب له ، فدل على أن ( ال ) حرف داخل على الكلمة سقط لأجلها التنوين » .
أما ابن قيِّم الجوزيَّة فعلق على قول السهيلي ، وشيخه ابن العربي ، فقال:« زعم السهيلي ، وشيخه أبو بكر بن العربي أن اسم الله غير مشتق ؛ لأن الاشتقاق يستلزم مادة يُشتَقُّ منها ، واسمه تعالى قديم ، والقديم لا مادة له ، فيستحيل الاشتقاق .. ولا ريب أنه ، إن أريد بالاشتقاق هذا المعنى ، وأنه مستمدٌّ من أصل آخر ، فهو باطل ؛ ولكن الذين قالوا بالاشتقاق لم يريدوا هذا المعنى ، ولا ألمَّ بقلوبهم ؛ وإنما أرادوا أنه دالٌّ على صفة له تعالى ، وهي الإلهيَّة ؛ كسائر أسمائه الحسنى ؛ كالعليم والقدير ، والغفور والرحيم ، والسميع والبصير ؛ فإن هذه الأسماء مُشتقَّة من مصادرها بلا ريب ، وهي قديمة ، والقديم لا مادة له ، فما كان جوابكم عن هذه الأسماء ؟ فهو جواب القائلين باشتقاق اسم الله .
ثم الجواب عن الجميع : أننا لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى ، لا أنها متولِّدة منها تولُّد الفرع من أصله . وتسمية النحاة للمصدر والمشتقِّ منه : أصلاً وفرعًا ، ليس معناه : أن أحدهما تولَّدَ من الآخر ؛ وإنما هو باعتبار أن أحدهما يتضمَّن معنى الآخر ، وزيادة . وقول سيبويه : إن الفعل أمثلة أخِذَت من لفظ أحداث الأسماء ، هو بهذا الاعتبار ، لا أن العرب تكلموا بالأسماء أولاً ، ثم اشتقُّوا منها الأفعال ؛ فإن التخاطب بالأفعال ضروريٌّ ؛ كالتخاطب بالأسماء ، لا فرق بينهما . فالاشتقاق هنا ليس هو اشتقاقًا ماديًّا ؛ وإنما هو اشتقاقُ تلازمٍ ، سُمِّيَ المتضمِّن بالكسر مشتقًّا ، والمتضمَّن بالفتح مشتقًّا منه ، ولا محذور في اشتقاق أسماء الله تعالى بهذا المعنى » .
هذا وقد تتبَّع الأستاذ حسين الهمذاني محقق كتاب الزينة لأبي حاتم الرازي هذا الاسم مع مقارنته مع نظائره في اللغات السامية الأخرى ، فوجد أنه قد استُعمل بلفظ ( إلوه ) في العبرية ، و( إلاه ) في الآرامية ، و( ألوها ) في السريانية ، و( إلاَّه ) في العربية الجنوبية ، ممَّا يدل على أنه اسم علم . وقد ذكر الأستاذ الهمذاني أن الكلمة الأصلية لهذا الاسم في جميع اللغات السامية هي إلّ ) ، ثم أخذت صورًا يختلف بعضها عن بعض ؛ ولهذا فهو يرى أنه : اسم علم جامد ، وأنه عربي قديم ، ولا يحتاج إلى اشتقاقه من أله يأله ) ، أو من وله يأله ) . وقد لاقى هذا القول قبولاً ، وتأييدًا من قبل بعض الباحثين المعاصرين .
وخلاصة القول في ذلك :
أولاً- أن لفظ الجلالة ( الله ) هو اسم عربي قديم ، وهو اسم علم جنسي ، أطلقه الله جل وعلا على ذاته المقدسة ، وخصَّها به دون غيرها من الذوات المخلوقة . وقوله تعالى :﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾(مريم: 65) يدل على أنه قد سبق الأسماء كلها ، ولم يتقدَّم عليه لفظ ، أو عبارة ، وأنه لم يسمَّ به أحد غير الله جل وعلا ، بخلاف غيره من أسماء الله الحسنى التي تدل على صفاته جل وعلا ، على سبيل التمام والكمال . روي عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- أنه قال : قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم ، فقال :«يا ابن أمِّ عبد ! قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، هكذا أقرأنيه جبريل عليه السلام من القلم من اللوح المحفوظ» .
قال الخليل في معجم العين مادة ( أله ) :« إن اسم الله الأكبر هو : الله ، لا إله إلا هو وحده » . وقال الزجاج :« جاء في التفسير : أن اسم الله الأعظم هو : الله » .
وقال ابن خالويه :« وقيل : اسمه الأعظم : الله . وقيل : اسمه الأعظم : يا ذا الجلال والإكرام . وقيل : يا حيُّ يا قيُّومُ . والذي أذهب إليه : أن هذه الأسماء كلها صفات لله تبارك وتعالى ، وثناء عليه ، وهي الأسماء الحسنى ؛ كما قال الله :﴿وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾(الأعراف: 180)» .
وعقد أبو حاتم الرازي في كتابه الزينة فصلاً بعنوان انفراده تعالى باسم الله ) ، قال فيه :« قال بعض العلماء : اسمه الله ؛ لأنه تفرَّد بهذا الاسم ، فلم يسمَّ بهذا الاسم شيء من الخلق ، ولم يوجد هذا الاسم لشيء من الأشياء ، ووجدنا غيره من أسمائه الحسنى نعوتًا وصفات لهذا الاسم الواحد . وإنما جاز أن يقال لها : أسماء ، وهي صفات ونعوت ؛ لأن النعت يقوم مقام الاسم ، ويكون خلفًا له . فهذا الاسم مستوْلٍ على الأسماء كلها . أعني : الله عز وجل ، وإليه تنسَب الأسماء كلها . قال الله عز وجل :﴿وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى ﴾(الأعراف: 180) ، فنسب إلى هذا الاسم الأسماء كلها .. والبَرُّ والفاجر انقادا له بهذا الاسم كَرْهًا ، أو طَوْعًا . وتسمَّى الناس بسائر الأسماء ، ولم يتسَمَّوْا بهذا الاسم الواحد ، وهو الله ؛ ولهذا جاء اسم الله جل ذكره مكَرَّرًا أمام كل اسم من أسمائه الحسنى » .
ثانيًا- قال الخليل في معجم العين :« الله : لا تطرحالألف من الاسم ؛ إنما هو : الله ، على التمام ، وليس الله من الأسماء التي يجوز منها اشتقاق فعل ؛ كما يجوز في : الرحمن الرحيم » .
وهذا يعني أن الألف واللام فيه من أصل الكلمة ، وأن همزته- في الأصل- هي همزة قطع ، لا وصل ؛ ولكنها وصِلَت لكثرة الاستعمال ، وأنه لا يتصرَّف تصرُّف غيره من الأسماء ، فيشتَقٌّ منه فعل ؛ كما يشتقُّ منها . فهو بهذا الاعتبار فقط يكون جامدًا . أي : غير متصرف . أما باعتبار أنه يلتقي مع غيره من الأسماء الجامدة ، والمصادر المتصرِّفة ، في لفظه ، وفي معناه ، فهو مشتقٌّ .
وأما قول بعض العلماء :« والذين أشركوا في عبادته وعبدوا غيره ، اشتقوا له أسماء من اسمه ، فسمُّوا أوثانهم : آلهة » . ثم قوله بعد ذلك :« وليس هذا الاسم بمشتقٍّ من نعت ؛ كالقادر من القدرة ، والراحم من الرحمة ، والعالم من العلم ، وإنما هو اسم لا تشاركه صفة » فهو ليس بشيء ؛ لأنه مبني على فهم غير صحيح لمعنى لفظ الجلالة ، ولمعنى الاشتقاق . ولتوضيح ذلك لا بدَّ من أن نفهم معنى الاشتقاق- كما فسره ابن قيِِّم الجوزية في قوله الذي تقدم ذكره ، وكما هو مقرَّر في علم اللغة- وذلك أن الكلمات في اللغة العربية تنقسم من حيث اشتقاقها ، وعدمه إلى قسمين :
القسم الأول : كلمات صلبة ليس لها مادة اشتقاقية من لفظها ، ولا يُشتَقُّ منها ؛ نحو : إذ ، وإذا ، وحيث ، ومتى ، ومن ، وما ، والذي ، والتي ، وهذا ، وتلك .
القسم الثاني : كلمات مشتقَّة ؛ وهي نوعان : متصرِّفة . وغير متصرِّفة . أما المتصرِّفة فهي التي تعرف بالمصادر ؛ نحو : العلم والجهل ، والصدق والكذب . وأما غير المتصرِّفة فهي التي تطلق على الذوات ؛ نحو : رجل وفرس ، ونجم وكوكب .
فهذه الكلمات- بنوعيها- هي كلمات مشتقة ، ومادة اشتقاقها جميعًا هي حروفها الأصلية . ومن النوع الأول
الأله ) ، بمعنى : التحيُّر ، و( الوله ) ، بمعنى : الفزع . و( التألُّهُ ) ، بمعنى: التعبُّد . ومن النوع الثاني : لفظ الجلالة
الله ) ، و( إله ) . ومن هنا لا يجوز أن يقال : إن لفظ الجلالة ( الله ) أصله
إله ) ؛ لأن كل واحد منهما أصل . كما لا يجوز أن يقال : إن ( إله ) مشتَقٌّ من لفظ الجلالة الله ) ، أو العكس ؛ لأن كلاًّ منهما مشتقٌ . كذلك لا يجوز أن يقال : إن كلاًّ من لفظ الجلالة
الله ) ، ولفظ
إله ) مشتق من ( الأله ) ، أو ( الوله ) ، أو ( التألُّهُ ) ،وإن تلاقى الجميع في اللفظ والمعنى؛ لأن هذه الألفاظ مصادر ، وهي من نوع الأسماء المتصرِّفة ، ولفظ الجلالة
الله ) ، ولفظ
إله ) من نوع الأسماء غير المتصرِّفة .وإن سمِّي أحدهما مشتقًّا والآخر مشتقًّا منه ، فمن باب التجوز ؛ لأن ما بينهما هو اشتقاق تلازمي ، لا اشتقاق مادي .
ويدلك على أن لفظ ( إله ) ليس أصلاً للفظ الجلالة ، ولا مشتقًّا منه أمور ؛ منها :
1- أن لفظ ( إله )هو أحد أسماء الله الحسنى ، المشار إليها بقوله تعالى :﴿وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾(الأعراف: 180) . والدليل قوله تعالى :﴿ وَإِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ لا إِلهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾(البقرة: 163) .
2- أن القرآن الكريم فرَّق بينهما في الاستعمال ، فأتى بلفظ ( إله ) وصفًا للفظ الجلالة في كثير من الآيات ؛ منها قوله تعالى :﴿ اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولاَ نَوْمٌ ﴾(البقرة: 255) .
وقد جاءت هذه التفرقة صريحة بين اللفظين في قوله تعالى :﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾(الأنبياء: 22) ، فغاير سبحانه بين لفظ ( الآلهة ) ، وهي جمع
إله ) ، وبين لفظ الجلالة ( الله ) . كذلك جاءت هذه المغايرة صريحة على ألسنة الكفار الذين اتخذوا من الأصنام آلهة يعبدونها ؛ لتقربهم إلى الله جل وعلا . وقد حكى القرآن ذلك عنهم في قوله تعالى :﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾(الزمر: 3) .
كل ذلك يدل دلالة واضحة وصريحة على أن لفظ ( إله ) هو غير لفظ ( الله ) جل ذكره . وإن دل ذلك على شيء ، فإنما يدل على أن المعبود بحق هو الله جل جلاله ، وأن ما سواه فباطل ؛ وذلك ما يفهم من قوله تعالى :﴿وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾(آل عمران: 62) ، وقوله تعالى :﴿ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾(ص: 65) . فكما أن الله تعالى ليس كمثله شيء ، فكذلك اسمه تعالى ليس كمثله اسم !
3- أن كلا اللفظين قد وردا كثيرًا في الشعر الجاهلي قبل نزول القرآن ؛ كقول النابغة الذبياني في مدح النعمان بن المنذر ملك الغساسنة :
ولا أرى فاعلاً في الناس يشبهه ** وما أحاشي من الأقوام من أحد
إلا سليمـــان إذ قال الإله له ** قم في البرية فاحددها عن الفند
وقول امرىء القيس :
فاليوم أشرب غير مستحقب ** إثمًا من الله ولا واغل
وهذا يؤكِّد أن لفظ ( إله ) يختلف عن لفظ الجلالة ( الله ) في الاستعمال الجاهلي ؛ لأن ورود اللفظين في فترة واحدة في الشعر يدل على أن كلاًّ منهما مستقلٌّ عن الآخر . كما يدل على أن لفظ الجلالة ( الله ) كان مألوفًا عند العرب ، يجري على ألسنتهم جريانًا طبيعيًّا ، وأنه قديم في استعمالهم اللغوي ، وأنهم كانوا يفرقون بينه ، وبين لفظ ( الإله ) ؛ ولهذا سمُّوا أصنامهم
آلهة ) ، وكانوا يطلقون على كل إله منها اسمًا ، يعرَف به ؛ كـ( اللَّات ) ، و( العُزَّى ) ، و( مُناة الثالثة ) ، ولم يطلق أحد منهم على صنم من تلك الأصنام اسم ( الله ) تعالى .
4- أن كلًا من لفظ ( الله ) ، و ( الإله ) يشبه في لفظه وبنائه اللغوي نظائره في اللغات السامية الأخرى . ففي العبرية
إلوه ) ، وفي الآرامية
إلاه ) ، وفي السريانية
إلوها ) ، وبهذا المعنى شاع في اللغات السامية . والكلمة الأصلية لتلك الأسماء في هذه اللغات هي إلّ ) ، بتشديد اللام ، ومعناها : الله جل وعلا . قال الأستاذ حسين الهمذاني :« ولا يخفى أن مرادف كلمة ( إلاه ) في العربية الجنوبية القديمة هي إلّ ) ، وفي العبرية الأصلية هو
إلو ) ، وقد احتفظت الكلمة العربية الجنوبية بصورتها ودلالتها ، وعاشت الكلمة العبرية في الأسماء المركبة ؛ مثل
بيت الله ) ، وندر استعمالها بمعنى ( الله ) . ولما كانت ( إلو ) يحتمل أن تشير إلى رئيس الآلهة في ( البانسيون ) ، فقد حلَّت محلَّها الكلمة الآرامية ( إلوه ) ، بصيغتها الثانوية ، وجمعها
إلوهيم ) . وفي حين أن الكلمة ( إلوه ) كانت نادرة الاستعمال في صيغة المفرد ، تطورت صيغة الجمع ( إلوهيم ) ، ومعناها : الآلهة ، إلى أن أصبحت دالة على الإله الواحد الفرد الذي يجمع أسماء الله وصفاته - كما حكاه كوخلر- وإلى هذا المعنى أشار علماء العربية في تفسير ( اللهم ) ، في قوله تعالى :
﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾(آل عمران: 26)
قال الحسن البصري :«اللهممجمع الدعاء» . وقال أبو رجاء العطاردي :« هذه الميم في قولك : اللهم ، فيها جماعة سبعين اسمًا من أسماء الله » . وقال النضر بن شُمَيْل :« من قال : اللهم ، فقد دعاه بجميع أسمائه كلها » .
فقد ثبت بما تقدم أن هذه الأسماء ترجع إلى أصل واحد ؛ وهو ( إلّ ) ، وأن لكل واحد منها دلالته واستقلاله عن الآخر ، وتجمعها جميعًا مادة اشتقاقية واحدة هي أصولها المؤلَّفة من ( الهمزة ، واللام ، والميم ) ، والتي تدور معانيها حول : الربوبية ، والإلهيَّة ، والتعالي ، والهيمنة ، والقدرة .. إلى غير ذلك من الصفات التي لا يمكن لبشر أن يتَّصف بها . وأكثر تلك الأسماء دلالة على هذه المعاني هو لفظ الجلالة
الله ) ، وهو اسمه سبحانه . قال الليث :« بلغنا أن اسم الله الأكبر هو : الله لا إله إلا الله وحده » . وأحسن ما قيل في تفسيره قول ابن عباس رضي الله عنهما :« هو الذي يأله كل شيء ، ويعبده كل خلق » ، سبحانه